الطب المسند بالدليل

لا يعد مفهوم الرعاية الصحية في القرن الواحد والعشرين مقتصرًا على المهارات الطبية الفردية، بل أيضًا على أفضل المعلومات والأدلة الصحيحة والموثوقة حول فعالية استخدام كل تدخل طبي من قبل الأطباء ومقدمي الخدمات الطبية، ويعرف هذا النهج باسم “الطب المسند بالدليل”.

ومع تزايد الاهتمام بنهج “الطب القائم على الأدلة”، أصبحت الأهداف تسير باتجاه تزويد الأطباء والمتخصصين في الرعاية الصحية بمعلومات طبية حديثة مواكبة للأبحاث العلمية الطبية وغير متحيزة ومراجعة بشكل مستقل لتسهيل التشخيص وتحسين رعاية المرضى.

ما هو الطب المسند بالدليل

يتم تعريف الطب المسند بالدليل على أنه نهج حديث في الممارسة الطبية يهدف إلى تحسين عملية اتخاذ القرار من خلال ضمان استخدام الأدلة الطبية المستخلصة من الأبحاث القوية علميًا، ورغم أن الطب ككل مبني على أسس علمية متينة، إلا أن الطب المسند بالدليل يذهب أبعد من ذلك، حيث يقوم بتصنيف الأدلة من خلال قوتها المعرفية ويمنح الأدلة الأقوى فقط ميزة إعطاء التوصيات القوية والأدلة الأضعف يمكن أن تسفر فقط عن توصيات ضعيفة.

تم استخدام المصطلح في الأصل لوصف النهج المستخدم لتدريس الممارسات الطبية وتحسين القرارات الطبية التي يتخذها الأطباء بشأن المرضى، وتوسع استخدام المصطلح سريعًا ليشمل منهجًا وٌصف سابقًا وتم فيه التشديد على استخدام الأدلة في تصميم المبادئ التوجيهية والسياسات التي تنطبق على مجموعات المرضى والسكان “سياسات الممارسة القائمة على الأدلة”.

وسواء تم تطبيقها على التعليم الطبي أو القرارات الطبية المتعلقة بالأفراد أو المبادئ التوجيهية والسياسات المطبقة على السكان أو إدارة الخدمات الصحية بشكل عام، فإن القائمين على الطب المسند بالدليل يجب أن يقوموا وإلى أقصى حد ممكن باتخاذ القرارات والسياسات بناء على وجود أدلة مثبتة وليس فقط بناء على معتقدات الممارسين أو الخبراء أو المسؤولين. وبالتالي، فإن هذا النهج يحاول التأكد من أن رأي الطبيب، الذي قد يكون محدودًا بفجوات المعرفة و التحيزات، يتم استكماله بجميع المعارف المتاحة من الأدبيات العلمية حتى يمكن تحديد أفضل الممارسات وتطبيقها، ويشجع استخدام الطرق الرسمية لتحليل الأدلة وإتاحتها لصناع القرار، كما يعزز استخدام البرامج اللازمة لتعليم الأساليب لطلاب الطب والممارسين وصانعي السياسات.

أهمية الطب المسند بالدليل

يضيف الطب المسند بالدليل ميزة كبرى للأنظمة الصحية من خلال تحقيق مكاسب جمة في كل من الرعاية والصحة والتكاليف في آن واحد، ويظهر هذا في خمسة طرق:

  1. يبقي الأطباء والقائمين على الخدمات الصحية على إطلاع دائم بآخر التحديثات في عالم الطب من خلال بروتوكولات وأنظمة قائمة على الأدلة.
  2. اتخاذ القرارات الطبية وتقديم الخدمات للمرضى في الوقت المناسب: يتمتع العاملون في الرعاية الصحية الآن بوصول سهل للمعرفة الطبية نظرًا للثورة الحديثة في التكنولوجيا لتوفير خدمات أفضل للمرضى.
  1. الشفافية في تقديم الخدمات الصحية والمساءلة القانونية في حال التقصير: يجب على الطبيب أن يتمتع بالشفافية دائمًا في تقديم خدماته للمريض بشكل يعرضه للمساءلة القانونية في حال ثبت العكس، ومن جهة أخرى، يطالب المريض دائمًا بالخدمات ذات الجودة العالية والرعاية الآمنة والتكلفة الأقل، هنا يأتي دور الطب المسند بالدليل وأهميته في تحقيق هذه الأهداف حيث يسعى الطب المسند بالدليل إلى تعزيز الشفافية والتفكير المنطقي في اتخاذ القرارات الطبية، وتبرير القرارات على أساس معلومات وأدلة مثبتة علميًا وطبيًا بشكل يحقق لكل من الطبيب والمريض أهدافهم ويضمن نجاح العلاقة بينهما.
  1. تحسين جودة الرعاية الطبية: رغم أن الكثير من البلدان تنفق كثيرًا من الأموال على الرعاية الصحية لكل شخص، إلا أن هناك أدلة واسعة على أن المواطنين لا يحصلون في كثير من الأحيان على الخدمة الطبية التي يحتاجون إليها. مع الطب المسند بالدليل، تتحسن جودة الرعاية الطبية لأن الأطباء يحصلون على المعلومات المحدثة أولًا بأول وطرق الممارسة التي يتم فحصها والاتفاق عليها.
  1. تحسين النتائج: السبب الأهم للاهتمام بالطب المسند بالدليل هو أنه أثبت كفاءته، هناك الكثير من البيانات التي توضح ما إذا كانت الأنظمة الصحية تستخدم أفضل الأدلة والخبرات السريرية، وتضمن أن تكون العلاجات متوافقة مع رغبات المريض، وتتحقق من أفضلية النتائج بطرق عدة.

أنواع الأبحاث الطبية ودرجات المعلومات المثبتة بالدليل

هذه أنواع الأبحاث الطبية التي يمكن استخدامها لإيجاد أي معلومة أو طريقة ممارسة بناءً على الطب المسند بالدليل:

  • تقارير الحالة (case report): تتضمن مجموعات من التقارير حول علاج المرضى كل على حدة، أو تقرير عن مريض واحد، ولأنها تقارير عن حالات ولا تستخدم “عينات تحكم” لمقارنة النتائج، فإن صلاحيتها ضئيلة.
  • دراسات الحالة عينة التحكم (case control studies): هي الدراسات التي تتم فيها مقارنة المرضى الذين لديهم مرض معين بالفعل مع الأشخاص الذين ليس لديهم هذا المرض، يعتمد الباحث على كل من المعلومات الموجودة في السجلات الطبية للمريض واسترجاع المعلومات من قبل المرضى لتحديد عوامل الخطر التي قد تكون مرتبطة بالمرض. غالباً ما تكون هذه الأنواع من الدراسات أقل موثوقية من التجارب العشوائية لأن استنتاج علاقة إحصائية لا يعني أن أحد العوامل يسبب الآخر بالضرورة.
  • دراسات كوهورت (cohort): يتابع الباحثون مجموعة من المرضى الذين يأخذون علاجًا معينًا أو سبق وقد تعرضوا لعامل خطر معين، ويراقبون النتائج بمرور الوقت، ثم يقارنون نتائجهم بمجموعة مماثلة لم تتلقى العلاج أو لم تتعرض لعامل الخطر. تعتبر هذه الدراسات أقل موثوقية من الدراسات العشوائية، لأن المجموعتين قد تختلفان في عوامل أخرى غير المتغير قيد الدراسة.
  • البحث الاستعادي (retrospective cohort): تتبع نفس نمط دراسات كوهورت، حيث يتابع الباحثون نتائج التعرض أو عدم التعرض لعامل خطر معين. ومع ذلك، تستخدم هذه الدراسات المعلومات التي تم جمعها في الماضي واحتفظ بها في الملفات أو قواعد البيانات.
  • التجارب السريرية العشوائية ذات الشواهد (randomized controlled clinical trials): هي تجارب مخططة بعناية، تقوم بإدراج علاج معين أو تعرض لعامل خطر معين لدراسة تأثيره على المرضى الحقيقيين، تتضمن هذه الدراسات منهجيات تقلل من احتماليات التحيز وتسمح بالمقارنة بين المجموعات التي تم التدخل فيها سواء بعلاج أو بالتعرض لعامل خطر ومجموعات التحكم (بدون تدخل)، ويمكن أن توفر دليلاً دامغًا على السبب والنتيجة.
  • المراجعات المنهجية (systematic reviews): تركز هذه الدراسات على موضوع طبي معين وتتناول الإجابة على سؤال محدد، يتم إجراء بحث شامل لتحديد الدراسات ذات المنهجية السليمة، وتتم مراجعة هذه الدراسات وتقييمها للتأكد من جودتها.
  • الدراسات التحليلية (meta-analysis): تتحقق هذه الدراسات من صحة عدد من الدراسات الأخرى حول موضوع معين ويتم تجميع نتائجها رياضيًا باستخدام منهجية إحصائية مقبولة لتظهر كما لو أنها دراسة واحدة كبيرة.
  • الدراسات المقطعية (cross sectional studies): تدرس هذه الدراسات العلاقة بين الأمراض والعوامل المؤثرة المحتملة في وقت ما وفي مجموعة محددة من السكان، تفتقر الدراسات المقطعية إلى أي معلومات عن توقيت التعرض لعوامل الخطر وعلاقتها بالنتائج وغالبًا ما تستخدم لمقارنة الاختبارات التشخيصية.
  • البحث النوعي (qualitative research): يجيب على مجموعة واسعة من الأسئلة المتعلقة بالاستجابات البشرية للمشاكل الصحية الفعلية أو المحتملة، والغرض من البحث النوعي هو وصف واستكشاف وشرح الظواهر الصحية التي تجري دراستها.

الشائعات والمعلومات المزيفة في الوطن العربي وكيفية التغلب عليها

الشائعة هي معلومة يتناقلها الناس دون أن تكون مستندة إلى مصدر موثوق، ومن الأسباب الرئيسة لوجود الشائعات حاجة الناس للحصول على معلومة واضحة، ولسوء الحظ فإن مصادر المعلومات في عالمنا العربي غالبًا ضعيفة وغير مبنية على دراسات أو مصدر علمي موثوق، أما مدى انتشار الشائعة وتناقلها في مجتمع ما، فإنه يعتمد على مستوى ثقافة ذلك المجتمع، فكلما كان أفراد ذلك المجتمع مثقفين، قل تقبل ونشر الشائعة، وذلك لأن الفرد الذي لديه ثقافة عن أمر ما يكون لديه تحصين ذاتي بمعرفته لتلك المعلومة، ثم إنه يغلب عليه التثبت من تلك المعلومة قبل نقلها.

أفراد المجتمع للأسف يعتمدون على معلومات مواقع “التواصل الاجتماعي” وبعض شائعات “الواتساب” للحصول على علاج للمرض، دون أن يٌعتمد ويطبق كلام الطبيب، خاصة أن بعض الوصفات يتم تناقلها بـ “الواتس” من أشخاص غير ثقة دون التأكد من صحتها، وبعضها تكون وصفات غير مجربة وغير مرخص لها، وتكون بعضها كارثية، فعلى سبيل المثل، ،نعاني كثيراً في مجتمعاتنا من مرضى السكر والغرغرينا، ويكثر اعتماد هؤلاء المرضى على الوصفات الشعبية، وأكثر ما نعاني منه هو إقناع المريض وأهله أن الطبيب أكثر دقة في وصف العلاج وليس الأطباء الشعبيين أو وصفات من “واتساب” أو “فيسبوك”، وتصل النسبة لـ 60% ممن يؤمنون بالطب الشعبي في هذا الخصوص، وفي أحيان كثيرة يلجؤون للمشفى بعد فوات الأوان حيث يكون الجرح ملتهباً ويضطر الطبيب لبتر أجزاء أكبر لإنقاذ حياة المريض.

مجتمعنا بحاجة إلى زيادة كبيرة في المستوى الثقافي عن طريق اعتماد تدريس مناهج دراسية متخصصة، وعن طريق توفير مصادر موثوق بها يمكن للأفراد الرجوع إليها عند الحاجة للبحث عن المعلومة الصحية، وإلا فالبديل جاهز، فوسائل التواصل مليئة بالشائعات والمعلومات غير الصحيحة، والتي مع الأسف تنتشر بسرعة فائقة، ولا يكاد يخلو منها بيت واحد في العالم العربي، فهي حالياً المصدر الأول للتثقيف في مجتمعاتنا، وفي الواقع فإن السبب في وصولنا لهذا المستوى هو التقصير الكبير في إيجاد مواقع متخصصة وموثوقة، لذلك كان الهدف من إطلاق موقع “طب فاكت” لإثراء المحتوى العربي بالمعلومات الطبية من مصادرها العلمية الموثوقة، حتى لا يصبح الفرد يحمل ثقافة ضعيفة لا تؤهله لحماية نفسه من الإشاعات، ولا للحصول على المعلومة الصحيحة وقت حاجتها.

المصادر

  • Wikipedia (2018) Evidence-based medicine, Available at: https://en.wikipedia.org/wiki/Evidence-based_medicine (Accessed: 19 October 2018).
  • Mark H. Ebell, MD, MS (2018) Evidence-Based Practice Overview, Available at: http://www.essentialevidenceplus.com/product/ebm_overview.cfm (Accessed: 19 October 2018).
  • Dr. John Haughom (2018) 5 Reasons the Practice of Evidence-Based Medicine Is a Hot Topic, Available at: https://www.healthcatalyst.com/5-reasons-practice-evidence-based-medicine-is-hot-topic (Accessed: 19 October 2018).
  • sabq (2015) , Available at: https://sabq.org/agQo5d (Accessed: 19 October 2018).

بقلم: د. آية عزمي صالحة